عالم الرياضيات ومؤسس علم الحاسوب أقدم على الانتحار وهو في قمة عطائه العلمي, واعتذرت الحكومة البريطانية مؤخرا عن تعاملها معه, فما هي قصة هذا العالم؟
نشأته
The maths brain lies often awake in his bed
Doing logs to ten places and trig in his head
ولد آلن ماثيسون تورينغ في مدينة لندن عام 1912 ثم ما إن أصبح عمره سنة ونصف حتى أدخل دار رعاية تهتم به لإضطرار والديه للسفر إلى الهند بسبب عمل والده هناك, فقضى طفولته بعيدا عنهما. ولم يلتقى بهما في طفولته إلا لمرات قليلة ومتفرقة, وكل المعلومات التي لدى الأبوين عن طفولته تأتي من خلال بعض الرسائل التي تصلهم من أقرباء زاروه أو من الطفل أو ممن يرعاه.
وكان لتورينغ اهتمام علمي منذ طفولته, فعندما كان في الثالثة من عمره تقطعت دميته فقام بالحفر في الحديقة ودفن جزء منها على أمل أن تنمو مكتملة! وفي إحدى رسائله لوالديه عندما كان في 13 من عمره, ذكر أنه يعلم نفسه الكيمياء العضوية بمساعدة الموسوعة. ويُعتقد أن قرائته لكتاب "عجائب الطبيعة التي يجب على كل طفل معرفتها" لـ إي. تي. بروستر أثرت على نظرته العلمية في أعماله المستقبلية, فالكتاب يساعد القارئ الصغير على الإجابة على سؤال "ما المشترك بيني وبين الكائنات الحية الأخرى وكيف أتميز عنها؟" وكان لتصور المؤلف عن الجسم البشري بأنه كالآلة أثرا كبيرا على تصورات تورينغ المستقبلية خاصة في مسألة طبيعة الذكاء عند البشر وتورينغ يعتبر أول من كتب بالتفصيل حول إمكانية وجود ذكاء للآلة.
وقد عانى أثناء دراسته الثانوية بسبب تركيزها على المواد الأدبية, حيث كان مستواه في مادتي اللغة الانجليزية واللاتينية في المؤخرة, وفي هذه الفترة كان ينظر إليه من حوله على أنه وحيد وغير إجتماعي بعدد محدود من الأصدقاء. وكان دائما ما يتعمق في الكتاب المقرر بلا اهتمام للمبادئ وهذا أكثر ما اشتكى منه مدرسيه, فكان كمن يريد أن يبنى السقف قبل أن يضع الأساسات.
بالرغم من هذا كان تورينغ بارعا في مجالات أخرى, ففي الكيمياء استطاع وهو في 14 من عمره أن يتوصل لطريقة فصل الأيودين من الأعشاب البحرية التي يجمعها من الشاطئ. وفي الرياضيات استطاع أن يتوصل بنفسه للدالة المثلثية المعكوسة inverse tangent function وهو بعمر 15.
المثلية الجنسية عند تورينغ
وخلال مرحلته الثانوية كانت له أول علاقة حب (من جانب واحد) مع زميله كريستوفر موركوم, والذي كان يشاركه اهتماماته العلمية, فكانا يتناقشان حول بعض النظريات الرياضية و التجارب الكيميائية ويتنافسان ويتعلمان من بعضهما البعض. لكن هذه العلاقة لم تدم طويلا, فقد اجتاز موركوم اختبار القبول في جامعة كامبردج ليذهب بعيدا عن تورينغ, ولكن استمرا في تبادل الرسائل بينهما, وبعد فترة قصيرة من افتراقهما, بالذات في ليلة 6 فبراير 1930 ظل تورينغ مستيقظا يحدق في النجوم وقال بشكل غير مفهوم "إلى الوداع يا موركوم", في نفس الليلة اعتلت صحة موركوم بشكل مفاجئ ونقل إلى مستشفى لندن ليتوفى بعد أسبوع. وقد امتلئ تورينغ بالحزن بعد وفاته وظل يتواصل مع والدته ويذهب معها في بعض الرحلات, وفي إحدى رسائله قال لها:
"I feel that I shall meet Morcom again somewhere and that there will be some work for us to do together as I believed there was for us to do here."
وبعد وفاة موركوم بدأ تورينغ بالتفكير بشكل عميق في علاقة الروح بالجسد وارتباطهما معا, وكتب ورقة قصيرة بعنوان "طبيعة الروح" Nature of Spirit وأرسلها لوالدة موركوم حيث ذكر فيها أن الروح موجودة بشكل أبدي وما أن يتهيأ الجسد للحياة تدخل فيه الروح وتظل متصلة معه كل الأوقات, عدا أثناء النوم والتي كما يقول تورينغ لا يعرف بالتحديد ماذا يحصل لها أثناء ذلك, ولكن عند وفاة الجسد فإن الروح تفارقه لتتصل مرة أخرى بجسد أخر, وهكذا تظل الروح موجودة إلى الأبد. هذه الأفكار ذكرها تورينغ وهو في العشرين من عمره ونستطيع أن نرى ظلالها على أعماله المستقبلية مثل الآلة العامة Universal Machine والتي تتضمن الفصل بين الآلة (الجسد) والبرنامج (الروح).
وقد لاحظ تورينغ بعد ذلك أنه ينجذب جنسيا لمن هم من نفس جنسه وليس للإناث (من المفارقة أن قبل عدة عقود اقترح أحد الأطباء دراسة الرياضيات كعلاج للمثلية الجنسية) وكان هذا التوجه الجنسي, الذي لا ينكره ولا يحاول أن يخفيه, الأثر الكبير في نهاية حياته والكيفية التي مات بها. وقد كان قلقلا من أن لا تقبل أفكاره وأبحاثه ودراساته بسبب ذلك, وعبر عن هذا في رسالة ﻷحد أصدقاءه عام 1952 ذكر فيها هذا القياس المنطقي الساخر:
Turing believes machines think
Turing lies with men
Therefore machines do not think
كان لتورينغ علاقة مع زميلته Joan Clarke التي عملت معه عام 1940 وكانا يتقابلان مرات عديدة إلى أن عرض عليها الزواج. فكان الزواج من نفس الجنس في ذلك الوقت مستبعد جدا, ومن الطبيعي بين المثليين أن يقترن أحدهم بالزواج من امرأة. وعندما تقدم لها أخبرها عن توجهه الجنسي, ولكنها لم تعتبر هذا مانعا لزواجهما, فاشترى خاتم الزواج, ولكنه وجد أن حماسه للزواج يتضائل كلما امضى المزيد من الوقت معها, فأخبرها فيما بعد بأنه لا يستطيع الإقتران بها ولكنهما ظلا يعملان معا كصديقين.
حاسوب تورينغ
حضر تورينغ إحدى محاضرات عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت والتي طرح فيها قائمة بعدة مسائل رياضية ليس لها حل بعد, والمسألة التي حازت على اهتمامه هي مشكلة القرار Decision Problem (أو بالألمانية Entscheidungsproblem).
وهي باختصار, عند إنشاء أي تأكيد رياضي, هل هناك خطوات منطقية متسلسلة (خوارزمية) يمكن من خلالها تحديد ما إذا كان هذا التأكيد الرياضي قابل للبرهنة؟
فهل هناك إمكانية لمعرفة ما إذا كانت مشكلة ما يمكن حلها حسابيا وكل ما تحتاجه هو بعض الوقت, أو يمكن المعرفة مقدما أن مشكلة ما لا يمكن أن تحل حسابيا, فلا يضيع الوقت في محاولة حلها حسابيا؟
لحل هذه المعضلة احتاج تورينغ أن يوجد وسيلة لتطبيق الخوارزميات من خلال الجمع بين مجموعة من العمليات, فوصف آلة افتراضية لها شريط ورقي لا نهائي مقسم إلى مربعات ويمكن للآلة القيام بهذه العمليات:
- إمكانية كتابة أحد الرمزين (0 أو 1) في المربع الحالي.
- إمكانية مسح المربع الحالي.
- إمكانية نقل الشريط لمربع واحد يمينا أو يسارا.
- مسجل يمكن من خلاله تسجيل الحالة الحالية للآلة. لمعرفة مالذي قامت به الآلة.
وهناك أجزاء أخرى مهمة مثل جدول التعليمات والذي يخبر الآلة بالعمليات التي تنفذها.
استخدم آلن هذه الآلة الإفتراضية للحصول على أجوبة عديدة حول المنطق والرياضيات. وأصبح يطلق على هذا النوع من الآلات الإفتراضية اسم "آلة تورينغ" أو "الآلة الورقية".
ومن خلال عمله أوضح بأن المدخلات والمخرجات للدالة الرياضية مطابقة للمدخلات والمخرجات لما نسميه الآن البرنامج الحاسوبي. فأي برنامج يمكنه معالجة البيانات يمكنه أن يعالج البرنامج على أنه نوع من البيانات. فالتسائل حول إمكانية حل المسألة الرياضية حسابيا هو نفس التساؤل في ما إذا كان الحاسوب لديه القدرة على حساب نتيجة ما بنجاح ويتوقف. وباستخدام آلته الإفتراضية, بين تورينغ بأن ليس هناك طريقة مضمونة للتأكد من ما إذا كان برنامج ما مع مدخلات ما لهذا البرنامج يمكن ﻷي أحد أن يحدد إذا كان البرنامج سيتوقف (إلا إذا نفذنا البرنامج وانتظرنا لفترة غير محدد من الزمن).
في النهاية أثبت تورينغ بأن هناك تأكيدات رياضية لا يمكن برهنتها, وهذا يماثل القول بأن مشكلة القرار التي طرحها هيلبرت لا يمكن حلها.
في مجال التشفير
أنشأت بريطانية وحدة لفك تشفير الرسائل في عام 1914 وعرفت بإسم "الغرفة رقم 40" والتي تمكنت خلال الحرب العالمية الأولى من فك تشفير إحدى الرسائل الألمانية المرسلة للسفير الالماني في المكسيك وتعلمه فيها بأنه في حال حاربت ألمانيا الولايات المتحدة الأمريكية, فستعرض على المكسيك ولاية تكساس ونيومكسيكو وأريزونا مقابل أن تتحالف مع ألمانيا. وسارعت بريطانيا بنقل هذه الرسالة إلى الولايات المتحدة والتي سببت حالة غضب في الشارع الأمريكي انتهى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية لبريطانيا وللحلفاء في الحرب.
وكان لتورينغ اهتمام في الدور المهم الذي يلعبه التشفير في الحروب على مدار القرون السابقة, وأعطى تصريحات هتلر اهتمام كبير وتوقع احتمالية قيام الحرب. فعمل على تصميم آلة لفك النصوص المشفرة ونجح في استخدامها في فك تشفير الرسائل الألمانية مما رجح كفة الحلفاء للفوز في الحرب العالمية الثانية وقصر من عمر الحرب.
كان الجيش الألماني يشفر رسائله باستخدام آلة الانيجما التي اخترعها المهندس الألماني آرثر شيربيو في العشرينات من القرن السابق بعد إضافة بعض التعديلات عليها لزيادة درجة الحماية. وللآلة لوحة مفاتيح تستخدم لكتابة الرسالة الأصلية Plaintext, ثم تظهر الرسالة المشفرة Ciphertext على الشاشة, وفي الجهة الأخرى يتم كتابة الرسالة المشفرة لتقوم الانيجما بفك تشفيرها وعرض نص الرسالة الأصلي على الشاشة.
في العام 1932 عرض أحد موظفي مركز التشفير الألماني بيع أسرار الانيجما للحكومة الفرنسية والتي بدورها مررت هذه المعلومات إلى جهاز المخابرات البولندي, حيث قام فريق من المحللين بصنع آلة تحاكي أداء الانيجما وأطلقوا عليها اسم Bombe بسبب الصوت الذي تصدره عندما تبحث عن الانماط المتكررة في الرسائل الالمانية المشفرة والذي يشبه صوت قنبلة موقوتة. واستطاعوا فك تشفير بعض الرسائل بداية من عام 1938 ولكن لسوء حظهم قام الألمان بزيادة مستوى تعقيد التشفير إلى درجة لم يستطع البولنديون مجاراتها, فانتقلت مهمة فك تشفير رسائل الانيجما إلى البريطانيين الذين بدأوا محاولاتهم عام 1939 في بليتشي بارك واعتمد آلن تورينغ بشكل كبير على التطوير المستمر لـ Bombe لتجاري تطوير الألمان المستمر للانيجما.
في عام 1941 كان جزء كبير من الرسائل الألمانية تقرأ بعد ساعات قليلة من إرسالها. لكن الألمان لم يعترفوا بأن البريطانيين تمكنوا من كسر تشفير الانيجما, وعزوا خسارتهم إلى الجواسيس, حتى عام 1974 حيث أعلنت بريطانيا عن كسرها لتشفير الانيجما منذ 1940 ولم يسع الحكومة الألمانية إلا الإقرار بذلك. وظلت إنجازات تورينغ في مجال التشفير سرية طيلة 30 عاما بعد الحرب العالمية الثانية وفقا لقانون سرية الحرب البريطاني.
التشفير بالاستبدال
تتم عملية التشفير في الانيجما من خلال استبدال كل حرف بحرف آخر Substitution Cipher, على سبيل المثال كلما كتب الحرف "أ" يتم استبداله بالحرف "ج" وكلما كتب الحرف "م" يستبدل بالحرف "ط". ويمكن فك تشفير الرسائل المشفرة بطريقة الاستبدال من خلال ملاحظة تكرار بعض الأحرف.
ففي اللغة الإنجليزية الحرف e يعتبر أكثر الأحرف إستخداما وتأتي بعده الحروف التالية t o a n i.
ففي حال تكرار حرف لمرات عديدة يحتمل أن يكون هو بديل الحرف e أو غيره من أكثر الأحرف استخداما.
وهناك أيضا مقاطع تتكون من حرفين digraphs أو ثلاثة أحرف trigraphs يكثر إستخدامها, مثل:
"th" "er" "on" "an"
"the" "and" "tha" "ent"
فعند ملاحظة حرفين أو ثلاثة متجاورين بشكل متكرر في النص المشفر يكون هناك احتمال بأنهما بديلان لأحد هذه المقاطع.
وتم تطوير بعض الآلات التي تلاحظ المتكررات في النصوص المشفرة وتقارنها بالمتكررات المعروفة مسبقا وتحاول فك تشفير النص بوقت أسرع بكثير من الطريقة اليدوية. ولقرون طويلة كان يعتقد أن محللي الشفرات يجب أن يتمتعوا بخبرة لغوية عالية ولكن مع الانيجما اتضح أن أهم صفتين هما الصبر الطويل والمعرفة في مجال الرياضيات.
الانيجما لا تستبدل الحرف بحرف آخر مرة واحدة بل تكرر العملية ثلاث مرات. ليس هذا فحسب, فالدوارات rotors التي تستبدل كل حرف يتم إدخاله إلى حرف آخر يمكنها أن تغير قيمتها. فمثلا عند كتابة الرسالة الاولى سيستبدل كل من الحرفين "أ" و "م" إلى "ج" و "ط". ولكن عند كتابة رسالة جديدة سيستبدل الحرفين "أ" و "م" إلى "ش" و "ق". الألمان استمروا في تطوير الانيجما وتحسينها على مدار عقدين من استخدامهم لها لتصبح أكثر تعقيدا بمراحل من الصورة المبسطة التي أعرضها هنا ولهذا أنكروا في البداية أن البريطانيين كسروا تشفير رسائلهم.
تشفير المحادثات الصوتية
بعد ذلك عمل تورينغ في منظمة خدمة حماية الراديو Radio Security Service وسخر وقته هناك على مشروعه الجديد حول تشفير المحادثات الصوتية Speech Encipherment, وسمى النظام الذي طوره دليله Delilah, والاسم مستوحى من شخصية انجيلية مشهورة بحيلها الخداعة. انهى نموذجه الأول في 1945 وكان هذا قبل استسلام الألمان بفترة قصيرة, فلم تعد المؤسسة العسكرية تهتم كثيرا لمجال التشفير, كذلك تورينغ قل اهتمامه بهذا المجال.
وقال وقتها أنه يريد أن يصنع عقلا! فالآلتين Bombe و Delilah مجالهم محدود جدا ونطاق عملهم ضيق, وهو يريد أن يصنع آلة قادرة على إجراء عمليات حسابية مشابهة للخواطر الذهنية أو بمعنى آخر قادرة على التفكير. وتلقى وقتها عرضا ليعمل في إدارة الرياضيات في المختبر الفيزيائي الوطني ببريطانيا, ليقوم على تطوير آلة حاسبة أوتوماتيكية, والتي زادت الحاجة لها في السنوات الأخيرة لعوامل عسكرية. وإذا رجعنا تاريخيا إلى الوراء سنجد أن باسكال في القرن السابع عشر عمل على صنع آلة ميكانيكية تجمع وتطرح وتضرب وتقسم, وقام تشارلز بابيج في القرن التاسع عشر بتصميم أول حاسوب ميكانيكي يقوم بالعمليات الحسابية, لكن أعمالهم ظلت كما هي ولم تتلقى الكثير من الاهتمام والدعم لتطويرها, لكن الأمر بالنسبة لزمن آلن تورينغ مختلف وذلك لأن الظروف كانت مهيأة لتوفير كل الدعم لتطوير آلة تقوم بالعمليات الحسابية أوتوماتيكيا فتم لها النجاح وذلك لحاجة بريطانيا آنذاك لحل شفرات الانيجما وحاجة الولايات المتحدة لعمل أبحاث متعلقة بالأسلحة النووية.
الذكاء الإصطناعي
بدأ آلن بالتفكير جديا في العلاقة ما بين الحاسوب والعقل البشري, وكان له اهتمام في الذكاء الميكانيكي, أو ما يعرف الان بالذكاء الاصطناعي.
وكتب ورقة علمية بعنوان "ذكاء الآلة" Intelligent Machinery عام 1948 تسائل فيها عن قدرة الآلة على التصرف بذكاء. حيث كان الاعتقاد السائد بأن الآلة ليس لها ذكاء وكانت تستخدم عبارات مثل "يتصرف كالآلة" كالتعبير عن هذا المعنى. وعزى هذا الاعتقاد لعدة أسباب مثل:
- عدم الرغبة في الاعتراف بإمكانية وجود منافسين للجنس البشري في القدرات العقلية.
- عقيدة دينية بأن أي محاولة لصنع آلة مفكرة هي عبارة عن استهتار بالخالق.
- القدرات المحدودة جدا للآلات المستخدمة في ذلك الوقت (حتى عام 1940), مما زاد على الاعتقاد أن قدراتها مقتصرة على الوظائف البسيطة والمحددة بدقة وعلى التكرار.
- حتى لو أظهرت الآلة بعض القدرات الذكية فهذا ليس إلا انعكاس لذكاء صانعها (وليس ﻷن لها ذكاء ذاتي).
واعتبر تورينغ أول سببين بأنهما أسباب عاطفية فلا حاجة لدحضهما. والسبب الثالث رد عليه بوجود الحاسوب الأمريكي إنياك والذي له قدرات متقدمة. أما القول الأخير فاعتبره كالقول بأن انجازات التلميذ يجب ان تنسب لأستاذه لأنه هو الذي علمه.
ولعل الحجة التي تقول بأن الآلة عاجزة عن التفكير بذاتها لأنها ببساطة تقوم بتنفيذ ما يأتيها من أوامر, لا أكثر ولا أقل, دفعته لطرح التساؤل الأهم في ورقته وهو "هل يمكن للآلة أن تدرب نفسها بنفسها؟".
فبالنظر لعقل الطفل الذي يعتبره تورينغ بأنه "آلة غير منظمة", ففي بدايات عمر الطفل ليس له القدرة على القيام بالعمليات الذهنية المرتبطة بالتفكير والتي يمارسها الكبار, مع ذلك, بعد فترة من الزمن تنمو لديه هذه القدرات. ويشير تورينغ سبب وجود هذه القدرات بأن عقل الطفل أصبح أكثر تنظيما, وأكثر قدرة للقيام بوظائف ذهنية متقدمة.
ولكن كيف حصل هذا التنظيم؟
رجع تورينغ لعلمي النفس ووظائف الأعضاء Psychology & Physiology والنتيجة التي خرج بها أن التنظيم يحدث بسبب عملية التكييف Conditioning وهي استجابة الأعضاء لمثير قد يقوى أو يضعف بناء على العقوبة والثواب. فإذا كوفئ الطفل (بقطعة حلوى, أو درجة ممتاز) لسلوك معين فهذا السلوك سيتكرر في المستقبل. وإذا عوقب (بالتوبيخ, أو بالحصول على درجة متدنية) فهذا السلوك من غير المحتمل أن يتكرر في المستقبل. ويعتقد آلن أن العقوبة والثواب تقوي الإتصال بين بعض الأعصاب في الدماغ وتضعفه بين أعصاب أخرى.
وإذا كانت الإتصالات بين الأعصاب في الجهاز العصبي المركزي للإنسان, وهي اتصالات كهربائية, يمكن تنظيمها خلال التكييف, فلماذ لا يحدث نفس التطور للدوائر الكهربائية في الآلة؟
تكمن المشكلة في إيجاد الوسائل التي من خلالها يتم إثابة أو عقوبة ردود أفعال الآلة بطريقة مشابهة لطريقة تعلم الإنسان. وهذه الفكرة (تعليم الحاسوب كما نعلم أطفالنا) كانت سابقة لعصرها! وبدأ بعض المتخصصون في تطوير الروبوتات من اتباع هذه الوسيلة في تسعينيات القرن العشرين.
اختبار تورينغ
I believe that at the end of the century the use of words and general educated opinion will have altered so much that one will be able to speak of machines thinking without expecting to be contradicted. ~Alan Turing
ووضع تورينغ في 1950 اختباره الشهير الذي يحدد ما إذا كان للآلة ذكاء أو لا ويعرف باختبار تورينغ Turing Test في أشهر كتاباته العلمية بعنوان "الحوسبة الآلية والذكاء" Computing Machinery and Intelligence وكان وضعه لهذا الاختبار بمثابة محاولة تجنب الجدل حول سؤاله "هل تستطيع الآلة أن تفكر؟". ويتكون الاختبار من 3 أشخاص إنسان وحاسوب وحكم مهمته أن يطرح عليهما الأسئلة ويتلقى الإجابات بصيغة مطبوعة, فإذا تمكن الحاسوب من خداعه وظن أنه هو الإنسان عندها ينجح في الإختبار ويكون هذا دليلا على ذكائه. وتصور بأن تبلغ الحواسيب من التطور في نهاية القرن العشرين لدرجة تخولها من اجتياز الاختبار, ولكن حتى الآن لم ينجح أي حاسوب على ذلك. وبوضعه لهذا الاختبار استبدل سؤاله القديم "هل تستطيع الآلة أن تفكر؟" إلى سؤال ابسط وهو "هل تستطيع الآلة أن تنجح في اختبار تورينغ؟".
وتنبأ في ورقته "الحوسبة الآلية والذكاء" بالكثير من الأسئلة والإعتراضات التي لازالت تناقش اليوم في الملتقيات العلمية الخاصة في الذكاء الإصطناعي. أحدها الاعتراض الديني والذي يحتج بأن الذكاء يحتاج إلى عنصر غير مادي أو ما يعرف بالروح والتي تتفاعل مع الجسد والمخ. ويرد تورينغ ببساطة بأنه لو استطاع الله أن يخلق إنسان بشري وينفخ فيه الروح فهو كذلك قادر على بث الروح في الإنسان الآلي.
وفاته
كما هو معروف أن تورينغ مثلي الجنس. وقد قابل شابا عمره 19 عاما يدعى أرنولد موراي وحصلت بينه وبين تورينغ عدة زيارات.
ثم لاحظ اختفاء النقود من محفظته عدة مرات, وبدأ أرنولد يسأله أن يقرضه بعض الأموال ليقضي بها ديونه. وبعد فترة تعرض منزل تورينغ للسرقة. وبشكل طبيعي توقع بأن يكون لأرنولد يد في سرقة منزله, فكتب له مخبرا إياه بإنتهاء علاقتهما وبأن لا يزوره مرة أخرى, ولكن أرنولد جاء ليوضح له بأنه بريء من السرقة ولكنه يعتقد بأنه يعرف من قام بها. وكما تبين أن أرنولد أخبر عن علاقته مع تورينغ لصديق يدعى هاري والذي اقترح عليه بأن يقوما بسرقة منزل تورينغ ولكن أرنولد رفض, لذلك فهو متأكد بأن هاري نفذ خطته بنفسه.
فقام تورينغ بإخبار الشرطة عن السرقة التي حدثت, واكتشف فيما بعد بأنه ارتكب خطأ بفعلته هذه. فبعد إلقاء القبض على هاري عرفت الشرطة منه عن العلاقة التي تربط تورينغ بأرنولد, وعندما سألوا تورينغ تفاجأوا بأن وجدوه صريحا جدا حول ما يتعلق بعلاقته مع أرنولد. فتمت محاكمته بتهمة ممارسة الفحشاء وخير تورينغ بين السجن وبين أن يخصى كيميائيا, فختار الأخيرة. وأخذ عدة حقنات من الاستروجين (هرمون أنثوي) لسنتين والذي كان يعتقد بأنه سيعالج اهتمامه الجنسي بالذكور. ولكن كانت له أثار جانبيه سيئة كتضخم الثدي وزيادة وزنه واكتئابه. وفي 1953 انتهت فترة العقوبة وجرعات الهرمون, ووافقت جامعة مانشستر على أن توظفه لخمس سنوات قادمة.
لكن يونيو 1954 وجد تورينغ ملقى على فراشه وبجانبه تفاحه مسمومة بالسيانيد وعليها عدة قضمات. واعتبرت وفاته بأنها انتحار.
أما والدة تورينغ فلا تعتقد أن أبنها انتحر, وكانت تقول بأنه كان يقوم بالعديد من التجارب الكيميائية والتي تتضمن استخدام السيانيد, فلعل يده كانت ملطخة بالسيانيد عندما أكل التفاحة ولم يغسلها, وهو من اعتاد, كما تقول والدته, بأن يأكل تفاحة قبل أن ينام. وكذلك هو لم يترك بعده رسالة.
توفى آلن تورينغ مخلفا وارئه كمية كبيرة من الإنجازات في ميادين عديدة كالرياضيات والتشفير والذكاء الإصطناعي والإحياء, وامتلك عقلية سابقة لعصرها ومازالت الأفكار التي طرحها قبل أكثر من نصف قرن محل نقاش بين العلماء اليوم. في 1999 وضعته مجلة التايم في قائمة أفضل 100 شخصية للقرن العشرين. وفي 2009 قدم رئيس الوزراء البريطاني اعتذاره عن الطريقة التي عومل بها تورينغ واعترف بدوره المؤثر في الحرب العالمية الثانية وجاء هذا الإعتذار بعد قيام آلاف البريطانيين من التوقيع على عريضة تطالب فيها الحكومة البريطانية بتقديم إعتذار للكيفية التي عومل بها عالم كبير مثل آلان تورينغ.
روابط
- فيديو: البروفسور جيم الخليلي يروي سيرة آلان تورينغ
- فيديو: إعلان فيلم "كاسر الشفرات" عن حياة آلان تورينغ
- أرشيف تورينغ
مراجع
Alan Turing: A Study in Light and Shadow by David E. NewtonAlan Turing: Computing Genius and Wartime Code Breaker by Harry Henderson
The Man Who Knew Too Much: Alan Turing and the Invention of the Computer by David Leavitt