ليس ثمة سعادة أو شقاء في المطلق, وإنما تفكيرنا هو الذي يُشعرنا بأحدهما.
ديكارت
تطور البشر خلال ملايين السنين على هذا الكوكب مع بقية الكائنات الحية الأخرى. إلا أن مسار التطور البشري مر بمحطات مختلفة عن من سواهم, وامتاز بعدة أمور تتبعها يوفال حراري (ولد 1976) في كتابه العقلاء: تاريخ موجز للبشرية.
من أبرز هذه المحطات الثورة الإدراكية, حيث فُتِحَت نافذة داخل عقول البشر تطل على عالم الخيال. هذه المَلَكة ليست موجودة عند بقية الحيوانات. واستطاع الإنسان استغلالها لتنظيم أمور حياته بما يتيح له التفوق على غيره.
تلا ذلك الثورة الزراعية واستقرار الإنسان بالقرب من الأنهار وبدء نشوء الحضارات. بعد ذلك كانت الثورة العلمية التي أنتجت كل ما ننعم به من تقدم تكنولوجي في حياتنا اليوم.
ما يهمنا في هذه الرحلة الطويلة من التقدم البيولوجي والحضاري والعلمي هو كيف انعكست هذه التطورات على سعادة الإنسان؟ هل وسائل النقل السريعة والتقدم الطبي والتسوق عبر الانترنت والديمقراطية وغيرها من أمور الرفاهية التي ننعم بها اليوم أسهمت في إسعاد الإنسان المعاصر أكثر ممن يعيش في الماضي؟ أم أن هذه الأشياء ليس لها كبير أثر؟
في نهاية كتابه, يتنتقل "حراري" بين مختلف الآراء المتعلقة عن السعادة, وكان أحدها منحى علماء الأحياء:
ينشر الباحثون الإجتماعيون استطلاعات حول السعادة الذاتية ويربطون نتائجها بعوامل إجتماعية وإقتصادية كالثروة والحرية السياسية. الأحيائيون يجرون نفس الاستطلاعات, إلا أنهم يربطون نتائجها بعوامل جينية وبيوكيميائية. النتائج التي توصلوا لها مروّعة.
يحمل الأحيائيون الفكرة التي تقول أن عالمنا محكوم بآليات بيوكيميائية تشكلت عبر ملايين السنيين من التطور. سعادتنا الذاتية, مثل كل الحالات الذهنية الأخرى, غير محتومة بالمتغيرات الخارجية كالراتب أو العلاقات الإجتماعية أو الحقوق السياسية. عوضا عن ذلك, ما يحددها هو نظام معقد من الأعصاب, الخلايا العصبية, الوصلات العصبية وأنواع شتى من المواد البيوكيميائية كالسيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين.
لم يسعد أحد من قبل بسبب الفوز باليانصيب, أو شراء منزل, أو الحصول على ترقية, ولا حتى بإيجاد الحب الحقيقي. ما يسعد الناس هو شيء واحد, وشيء واحد فقط -- أحاسيس مبهجة في أجسامهم. الشخص الذي فاز للتو باليانصيب أو وقع في حب جديد وصار يقفز من شدة الفرح, هو في الحقيقة لا يتفاعل مع المال أو الحبيب. هو يتفاعل مع أنواع متعددة من الهرمونات التي تسبح في مجرى دمه, وللعاصفة الكهربائية التي تحدث بين مختلف أجزاء دماغه.
كل الأسف للآمال التي تسعى إلى خلق الجنة على الأرض, يبدو أن النظام البيوكيميائي داخلنا مبرمج ليحافظ على مستوى ثابت نسبيا من السعادة. لا يوجد اختيار طبيعي للسعادة على ذاك النحو -- فجينات شخص ناسك زاهد بالزاوج وسعيد ستنقرض مقابل جينات زوجين شديدي القلق انتقلت إلى الجيل التالي.
السعادة والتعاسة يلعبان دورا في التطور فقط بحسب ما يشجعان أو يثبطان على البقاء والتكاثر. لذلك لعله من غير المستغرب أن عملية التطور شكلتنا لئلا نكون شديدي التعاسة أو شديدي الفرح. فأتاحت لنا التمتع باللحظات السريعة من الأحاسيس المبهجة. عاجلا أو آجلا ستسكن هذه الأحاسيس لتتيح مجالا للأحاسيس الكريهة. على سبيل المثال, التطور يكافئ الذكور اللذين ينشرون جيناتهم بممارسة الجنس مع إناث ولودات بأحاسيس لطيفة. هذه الأحاسيس لو لم تكن مرتبطة بالجنس لكان هناك عدد أقل من الذكور الذين يفعلون ذلك. بنفس الوقت, يحرص التطور على أن هذه الأحاسيس سرعان ما تخبو. ولو استمرت النشوة الجنسية للأبد لمات الذكور السعداء من الجوع لعدم اهتمامهم بالطعام, وبذلك لن يحملوا على عاتقهم مشقة البحث عن إناث ولودات أخريات.
بعض العلماء يقارنون بيوكيميائية الجسم البشري بنظام التكييف الذي يبقي درجة الحرارة ثابتة بغض النظر عن الجو في الخارج, سواء كان ملتهب الحرارة أو عاصف وثلجي. قد تغير الأحداث درجة الحرارة للحظات, لكن نظام التكييف سرعان ما يعيدها كما كانت. بعض أنظمة التكييف تثبت درجة الحرارة على 70 درجة فهرنهايت. أنظمة أخرى تثبتها على عشرون درجة فهرنهايت. كذلك أجهزة السعادة البشرية تتفاوت من شخص إلى آخر.
على مقياس من واحد إلى عشرة, بعض البشر يولدون مع نظام بيوكيميائي مبتهج يتيح لأمزجتهم التنقل بين الدرجة السادسة إلى العاشرة, ومع الوقت, يستقر عند الثامنة. هكذا شخص يكون دائم السعادة حتى لو عاش بمدينة بعيدة, وخسر كل أمواله في انهيار البورصة, وشُخِّص بإصابته بالسكري. أشخاص آخرون ملعونون ببيوكيميائية كئيبة تتراوح بين الدرجة الثالثة والسابعة وتستقر عند الخامسة. شخص كهذا يظل تعيسا ولو حصل على دعم مجتمعي, وفاز بملايين من اليانصيب وملك صحة لاعب أولمبياد. بالتأكيد, حتى لو فاز هذا الشخص الكئيب بخمسين مليون دولارا صباحا, واكتشف علاجا للأيدز والسرطان في الظهيرة, وعقد صلحا بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد الظهر, وفي المساء اجتمع مع ابنه الذي اختفى منذ سنة, سيظل غير قادر على تجربة أي درجة من السعادة تفوق السابعة. لأن عقله ببساطة غير مهيأ للابتهاج, مهما حدث.
فكر للحظة بأسرتك وأصدقائك. أنت تعرف بعض الأشخاص الذي يحافظون, نسبيا, على مرحهم مهما أصابهم. وهناك آخرون دائما مستاؤون مهما أعطاهم العالم من عطايا. نميل إلى الإعتقاد بأننا إذا تمكنا من تغيير عملنا, أو تزوجنا, أو أنهينا كتابة الرواية التي طالما أجلنا كتابتها, أو اشترينا سيارة جديدة أو سددنا ديوننا سنكون بذلك على قمة العالم. لكننا لا نبدو أسعد كلما حصلنا على ما نريد. فشراء السيارات وكتابة الروايات لا يغيران بيوكيميائيتنا. يمكنهما أن يلكزانها للحظة عابرة, لكنها سرعان ما تستقر في قيمتها الأولى الثابتة.
كيف ينضبط ذلك مع النتائج التي وجدها علماء النفس والاجتماع, بأن الأشخاص المتزوجين أسعد بالمتوسط من العزاب؟
أولا, هذه النتائج ارتباطية -- الجوانب السببية قد تكون مخالفة لما يظنه بعض الباحثين. صحيح أن المتزوجين أسعد من العزاب والمُطَلَقين لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الزواج يسبب السعادة. قد تكون السعادة هي سببا للزواج. أو بالأحرى, بأن السيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين يؤدون إلى الزواج ويحافظون عليه. فمن ولدوا ببيوكيمياء مرحة يكونون بشكل عام سعداء وقنوعين. وهؤلاء الأشخاص يكونون قرناء أكثر جاذبية, وبناء على ذلك تكون حظوظهم في الزواج أكبر. كذلك حظهم من الطلاق أقل, لأنه يسهل جدا معايشة زوج سعيد وقنوع على زوج كئيب وساخط. وهكذا, صحيح أن الأشخاص المتزوجين, بشكل متوسط, أسعد من العزاب, لكن حتى المرأة العزباء التي دائما ما تميل إلا الكآبة بسبب بيوكيمياء جسمها, لن تصير أسعد إذا تزوجت.
بالطبع أكثر الإحيائيين ليسوا متحجرين بآرائهم. فهم يزعمون بأن السعادة تُحددها البيوكيمياء, لكنهم يقرون أن العوامل النفسية والإجتماعية لها محلها. فنظام التكييف الذهني الخاص بنا له حرية التحرك ضمن أُطر محددة. حتى وإن كان من شبه المستحيل تخطي الحدود العاطفية العليا أو الدنيا, إلا أن الزواج يظل له تأثيره فيما بينهما. فشخص ولد بمتوسط خمس درجات من السعادة لن يرقص بعنف في الشارع. إلا أن الزواج المناسب سيتيح له الوصول إلى الدرجة السابعة من السعادة من حين لآخر, وسيساعده على تجنب كآبة الدرجة الثالثة.
إذا ما قبلنا المنحى الإحيائي تجاه السعادة, يصير للتاريخ أهمية ضئيلة, طالما أن الأحداث التاريخية ليس لها أي تأثير على بيوكيمياء أجسامنا. يمكن للتاريخ أن يغير المثيرات الخارجية التي قد تتسبب بإفراز السيروتونين, إلا أنه لن يؤثر على كمية\مستوى السيروتونين لذلك لن يجعل الناس أسعد. قارن بين فلاح فرنسي من القرون الوسطى ومصرفي باريسي معاصر. الفلاح يسكن في كوخ طيني لا يدفع عنه البرد ويطل على حظيرة خنازير, في حين أن المصرفي يعيش في شقة بهيجة تحتوي على شتى أنواع التكنولوجيا الحديثة في ناطحة سحاب مطلة على الشانزليزية. من البدهي أن نعتقد أن المصرفي أسعد من المزارع. إلا أن الأكواخ الطينية أو الشقق العالية في ناطحات السحاب لا يحددون أمزجتنا. ما يحددها هو السيروتونين. حينما ينتهي الفلاح القروسطي من بناء كوخه الطيني يُفرز دماغه السيروتونين ليأخذه إلى درجة معينة من السعادة. في عام 2014 عندما يسدد المصرفي الدفعة الأخيرة لامتلاك شقته البهيجة يفرز دماغه نفس الكمية من السيروتونين ليأخذه إلى درجة معينة من السعادة. لا يعني أي شيء للدماغ ما إذا كانت الشقة أكثر راحة من الكوخ. نتيجة لذلك, لن يكون المصرفي أسعد ولو بشيء يسير من جد جد جد جده الأعلى, ذلك الفلاح المسكين.
هذا صحيح ليس فقط على المستوى الشخصي لكن كذلك على الأحداث الجمعية. خذ على سبيل المثال الثورة الفرنسية. الثوار كانوا مشغولون بإعدام الملك وإهداء الأراضي للفلاحين وإعلان حقوق الإنسان, وابطال امتيازات النبلاء وشن الحرب على أوروبا. كل ذلك لم يغير بيوكيمياء الفرنسيين. نتيجة لذلك, بالرغم من كل الاضطرابات السياسية والإجتماعية والإيديولوجية والإقتصادية التي جرتها الثورة, كان تأثيرها على سعادة الفرنسيين صغير جدا. أولائك الذي ربحوا بيوكيمياء مرحة من يانصيب الجينات كانوا سعداء قبل الثورة وبعدها. أما أولائك الذين ولدوا ببيوكيمياء كئيبة فكانوا يتذمرون على روبسبير ونابليون بنفس المرارة التي كانو يتذمرون بها على لويس السادس عشر وماري أنطوانيت.
إذا كان الأمر كذلك, فما فائدة الثورة الفرنسية؟ إذا لم يسعد الناس فما الجدوى من كل تلك الفوضى والرعب والدم والحرب؟ يظن الناس أن هذه الثورة أو ذلك الإصلاح الإجتماعي سيجعلهم سعداء, إلا أن بيوكيميائيتهم تخدعهم مرة تلو المرة. هناك تطور تاريخي واحد فقط له تأثير حقيقي. الآن, وبعد إدراكنا أن مفاتيح السعادة تكمن في نظامنا البيوكيميائي يمكننا أن نتوقف عن إهدار أوقاتنا على الإصلاحات السياسية والإجتماعية, الإنقلابات والإيديولوجيات, والتركيز عوضا عن ذلك على الشيء الوحيد الذي يجعلنا بحق سعداء: معالجة نظامنا البيوكيميائي.
إذا ما أنفقنا المليارات لفهم كيمياء أدمغتنا وتطوير علاجات مناسبة, يمكننا أن نجعل الناس أسعد من قبل, بلا حاجة لأي ثورة. عقار بروزاك, على سبيل المثال, يخرج الناس من اكتئابهم ليس عن طريق تغيير الأنظمة لكن عن طريق زيادة مستويات السيروتونين.
لا شيء يعكس هذا الفكر الأحيائي مثل الشعار الشهير: "السعادة تبدأ من الداخل". المال, والحالة الإجتماعية, والعمليات التجميلية, والمنازل الجميلة, والمناصب القيادية -- لا شيء من ذلك سيجلب لك السعادة. السعادة الدائمة تأتي فقط من السيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين.
في رواية ألدوس هكسلي البائسة, عالم جديد شجاع, الصادرة عام 1932 في قمة الكساد الكبير, تكون السعادة ذات قيمة عالية وتغدو المخدرات النفسية كبديل للشرطة وللإقتراع على السياسات. يوميا, يتناول كل فرد جرعة من عقار "سوما" الذي يجلب لهم السعادة بدون أن يؤثر على إنتاجيتهم أو كفائتهم. لذا فالدولة العالمية التي تحكم العالم ليست مهددة بالحروب أو الثورات أو الغارات أو المظاهرات لأن الجميع قنوعين أشد القناعة بحالتهم الذهنية, بغض النظر عن ماهم عليه. نظرة هكسلي للمستقبل أشد اشتباكا من نظرة جورج أورويل في 1984. فعالم هكسلي يبدو وحشيا لأغلب القراء إلا أن ذلك يصعب شرحه. الكل سعيد طوال الوقت -- ما المشكلة في ذلك؟