خورخي لويس بورخس |
خمس دروس يمكن للأدباء تعلمها من قصص بورخس
بقلم: سوزان دِفريتاس
ترجمة: علي الصباح
كل محب للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس يتذكر لحظة اكتشافه لأعماله. يصف ويليام گيبسون هذه اللحظة:
"أنا… أتذكر ذلك الشعور المعقد والبسيط بشكل مخيف, المنبعث نتيجة قراءتي لقصة Tlön, Uqbar, Orbis Tertius…
لو كانت مفاهيم البرامج الحاسوبية معلومة لي حينها, أتصور أني كنت سأشعر وكأني أثبّت شيئا يتوسع أُسيّا والذي سيسمى لاحقا سعة نقل البيانات Bandwidth, لكن لم أكن قادرا على تحديد سعة نقل لأي بيانات بالضبط. تلك القصص الرفيعة والفكاهية بحدود واسعة من المعلومات الخالصة (الخيالية تماما), بتسلل متدرج وبلا هوادة أبادت بشكل كامل كل ما هو عادي, وفتحت شيئا ما بداخلي لم يغلق أبدًا."
اكتشفت بورخس خلال منتصف سنوات دراستي في كلية پريسكوت, ويمكنني تذكر تأثيرا مشابها. ذُهلت حين قرأت قصص مثل The Circular Ruins و The Library of Babel و Pierre Meard, Author of the Quixote. هذه القصص لم تكن موجهة من خلال الشخصيات. وهي بالكاد تحتوي على أي شيء يمكننا أن نطلق عليه مشاهد. ومع ذلك هي تفتح بوابات إلى عالم آخر.
الأمر الذي تحتويه كل هذه القصص هو التصوّر: رجل يوجِد رجلا آخر من خلال حلم. مكتبة تحتوي على كل التراكيب الممكنة للحروف. فنان أدائي تحول إلى كاتب وقرر أن يعيد كتابة رواية دون كيخوته. تصوّرات ذكية كهذه كثيرا ما يحيلها الطلبة إلى كتابات نثرية مريعة.
قرأت ما يكفي من هذه القصص في ورشات عمل الكتابة الإبداعية مما أمكنني لأرى إلى أي مدى من السوء يمكنها أن تكون بالعادة. بالرغم من ذلك, بين يديّ هذا الرجل, الذي بالكاد أستطيع نطق اسمه, تكون تلك القصص مثيرة. بورخس كان ذكيا, نعم, لكنه أيضا كان نوعا ما مرحا, وفي العمق أجد قصصه مبهجة جماليا. وبالرغم من اختلاف قصصه الواحدة عن الأخرى,إلا أن شيئا ما حيالهم يضفي شعورا بتشابههم. لماذا؟
في السنوات الأخيرة, أدركت أن قصص بورخس مليئة بنغمات مختلفة في نفس المواضيع, تلك المواضيع التي هو يجدها مبهجة جماليا: المرايا والانعكاسات. النمور والسيوف. المتاهات والورود. الجمعيات السرية. المكتبات.
ونعم, كان بورخس ذكيا. إلا أنه كان يكتب بطريقة يتوقع فيها أن يكون القارئ بنفس ذكاءه. هذا, حسب ملاحظتي, أحد الأشياء التي تجعل قصصه ساحرة, حتى وإن امتلأت بإشارات لأعمال كلاسيكية أنت لم تقرأها ومن المحتمل أنك لن تقرأها أبدا, حتى حين يتحدث عن أعمال لعلماء يونانيين وتلموديين مغمورين -لا يضع نفسه أبدا فوق القارئ.
وبشكل ما, رغم معرفته الواسعة إلا أن الكثير من قصصه تبدو سهلة جدا. هذا ليس مفاجئا, إذا ما عرفنا أن بورخس في شبابه أتخم نفسه من أعمال إدگار آلان پو (والذي كان يعده منشئ القصة البوليسية) وروبرت لويس ستيفنسن. قد يكون بورخس رفيع الثقافة, لكنه لم يغفل ولو للحظة أن قلب الأدب هو حكاية القصص.
جاذبية قصص بورخس التي تدفعنا للاستمرار أثناء قراءتها ترينا كيف أن الأفكار مهمة. فبينما بعض قصصه تعتمد على أسلوب "الآن فهمتها" الذي يلازم نهايتها والذي يُعزى إلى أو. هنري (على سبيل المثال قصة Emma Zunz لبورخس), بعضها مبني حول أفكار مدهشة جدا, مفارقة جدا وإعجازية, لدرجة رسوخها في ذهنك لزمن طويل بعد قراءتها. حسب تعبير گيبسون, أفكار توسع من سعة نقل بيانات الدماغ.
لو كانت هذه مقالة أكاديمية لدللت على تلك التوكيدات بأدلة من أعمال بورخس ومن حياته (ولرميت بعض الهوامش هنا وهناك). لكن لأن هذه المقالة هي للكتاب الساعون إلى شحذ مهارتهم وتوسيع نطاقهم, سأعرض عوضا عن ذلك خمس أشياء يمكننا تعلمها من قصص خورخي لويس بورخس القصيرة.
١- تعرف على شهواتك
قاموس مِريام ويبتسر يعرّف كلمة fetish بـ "رغبة أو حاجة قوية وغير اعتيادية لشيء ما", "رغبة أو حاجة لشيء, عضو جسدي, أو نشاط للمتعة الجنسية", أو "شيء ما يُعتَقد بامتلاكه لقوى سحرية". ليس أي من هذه التعريفات ينطبق على ما أعنيه, لكني أرى أن هذه الكلمة هي أقرب من أي كلمة أخرى في تبيان هذه الموضوعات, الأشياء, الحالات, والصور التي تحمل شيئا من القوى الغامضة لنا ككتاب.
كما تقول كيلي لينك, "أشد القصص غرابة تنبثق مما أنت مهووس به". في ردها على أحد النصائح التي تلقتها أثناء ورشة عمل Clarion Writers, سطّرت لينك قائمة بالأشياء التي تحب أن تجدها في القصص, والتي احتوت على "مدن الملاهي" "القصص المختلقة" وأيضا "الزومبي". ترجع لهذه القائمة بانتظام إذا أرادت أن تأتي بأفكار لقصصها.
قصص بورخس مليئة بالأشياء التي ذكرتها مسبقا, كالمرايا, السيوف, والمتاهات ( يشير گيبسون إلى "hallmark hall of mirrors") كذلك بعض الحالات مثل مواجهة أشخاص للإعدام ("The Secret Miracle"; "Deutsches Requiem"; "The God's Script") وتنقيح للقصص والمواضيع الكلاسيكية ("Three Versions of Judas"; "The House of Aterion").
ما الأشياء التي تحب أن تجدها في الأدب؟ أو بعبارة أخرى, ماهي شهواتك؟ وكيف يمكنك أن تدمجها في أعمالك؟
٢- ليس عليك أن تبدأ بشخصية
كنت أستاذا مساعدا في أحد فصول الكتابة الإبداعية في الجامعة قبل عدة سنوات. أحد الطلبة كتب افتتاحية لقصة مركزة على غلاف ألبوم القشدة ومسرات أخرى لـ هيرب ألپرت وتيوانا براس. ليس في هذه القصة الكثير مما يخص الشخصية, والتي أخبرنا الأستاذ -هو كاتب جيد ومعلم ماهر- برأيه المحدد في هذه المسألة الخلافية: لا يمكنك أن تبدأ في القصة من خلال تفاصيل تواقة وتلميحات جنسية. بل تبدأها من خلال شخصية.
هذه النصيحة بشكل عام جيدة -نصيحة يمكنها أن تساعدك لتكتب نفس نوعية الأدب المنتشر بشكل واسع في مجلات وصحف الأدب المعاصرة. لكنها ليست الطريقة الوحيدة لكتابة قصة, وقصص خورخي لويس بورخس تنبهنا إلى أن هناك طرق أخرى تستفتح بها, كأساسات بديلة تبنى عليها القصة, أحدها التصوّر.
والنتائج قد تكون أدبية تماما مثل القصة الموجهة من خلال شخصية. في غالب الأوقات, حسب خبرتي, حين تتفوق قصة من بين أكوام أخرى من القصص, يكون سبب ذلك أنها تجرأت في حكي قصة مبنية على تصوّر. ولا أنكر أن محاولات الطلبة الجامعيين في هذا النوع من القصص ينتهي إلى شيء باهت, فهذا لا يعني أنها لا تستحق المحاولة بنفسك. أحيانا تدور القصة حول ما الذي حدث, وليس لمن حدث.
٣- كل القصص بوليسية
عنصر أساسي في نجاح الأعمال التصوّرية هو طريقة الكشف عن التصوّر. في مكتبة بابل, بورخس لا يرمي علينا الفكرة مباشرة ويخبرنا أنها تدور حول مكتبة لانهائية. يبدأ بـ "الكون (الذي يسميه آخرون المكتبة) مكوّن من دهاليز سداسية الشكل غير محددة العدد وقد تكون لا نهائية". ثم يستمر في وصف هذه الدهاليز وما تحتوي عليه, من خلال بعض المفارقات الفلسفية: "لنكتفي الآن بذكري لهذا القول المأثور: المكتبة هي جسم كروي مركزه ذو شكل سداسي ومحيطه مستحيل الإدراك". إنه شيء ملغز, شيء يثير فضول القارئ, ويدفعنا في السرد.
ليس قبل أن نمضي وقتا في واقعية ذلك المكان اللاواقعي, ذو ٢٢ رمز هجائي, سلاسل الكلمات الفارغة من المعنى الموجودة في الكتب (من لغات غابرة أو قديمة), ويمهد بورخس للفكرة المركزية من خلال ذكر حقيقة عدم وجود كتابين متطابقين:
"من هذا, استنتج أمين المكتبة أن… رفوفها تحتوي على كل التراكيب الممكنة من الاثنين وعشرين حرفا… بمعنى, كل ما يمكن التعبير عنه في كل اللغات. كل -التاريخ المفصّل للمستقبل, السير الذاتية للملائكة, الفهرس الحقيقي للمكتبة, آلاف مؤلفة من الفهارس المزيفة, دليل على زيف الفهرس الحقيقي, إنجيل بازيليد الغنوصي, شرح ذلك الإنجيل, شرح على شرح ذلك الإنجيل, القصة الحقيقة لوفاتك, ترجمة لكل كتاب في كل لغة, زيادات من كل كتاب على كل الكتب, أطروحة بيدي Bede كان يمكنها أن تكون (لكنها لم تكن) عن أساطير الشعب السكسوني, كتب تاسيتوس المفقودة."
نستنتج حسب الأدلة: المكتبة لا تحتوي فقط على كل شيء كتب منذ القدم, بل أيضا كل شيء يمكن أن يُكتَب. لكن ما هي, بالتحديد, تبعات ذلك؟ هذا بالطبع موضوع بقية القصة.
غالبا ما يظن الكتاب الشباب بأنهم إذا ما كانوا يحملون فكرة فإنها ستكون كافية لجعل القصة تستمر. في الحقيقة, طريقة الكشف عن الفكرة رويدا رويدا هو ما يجعل القصة تستمر, شعور بلغز يتكشف.
٤- الكلمات أقل أهمية من الإيقاع
في كتاب ذاكرة بورخس In Memory of Borges, المقالة المعنونة "بورخس يتحدث عن بورخس", يتحدث الكاتب عن عمله:
"حين أكتب أسعى لأن أكون صادقا ليس للأشياء التي تحدث ولكن لحلمي في ذلك الوقت بالتحديد. أعرف أن القارئ يستشعر ذلك بهذه الطريقة. إذا ما شعر القارئ أن الكاتب يكذب, سيلقي بالكتاب جانبا. إذا استشعر القارئ أن الحلم هو استجابة لحلم حقيقي سيستمر في القراءة. بهذه الطريقة أظن أن الأدب يحدث -بالحلم الصادق. ليس بتقاذف الكلمات فحسب. أحاول أن أتناسى الكلمات وأعبر عن ما أريد قوله ليس بالكلمات بل بالرغم من الكلمات, وإذا كان الكتاب جيدا بحق ستنسى الكلمات."
يستمر في كلامه:
"لكن بالتأكيد علي أن ألتزم بالإيقاع. هذا أكثر أهمية من الحبكة أو المجاز أو أي شيء آخر -الإيقاع المناسب, التنغيم المناسب لكل جملة. هذا ما يجب أن أؤكد على أهميته."
يبدو الأمر متناقضا, بأن يكون "الحلم المخلص" و "الإيقاع المناسب" هما ما تُصنع منه القصص, عوضا عن الحبكات والكلمات. لكن إذا فكرنا في الأمر, سأقول أن أغلبنا يعرف ما الذي يتحدث عنه بورخس هنا. الإيقاع المناسب يمتصنا إلى مكان تتلاشى فيه القصة نفسها والحلم الذي في جوهرها يغدو حلمنا.
٥- الحجم لا يدل على الأهمية
أخيرا, إذا كانت قصصك القصيرة لا تقترب من عدد ٥٠٠٠ كلمة الذي تفضله المجلات والمسابقات الأدبية, فلا تشعر بالإحباط. أحيانا قصة شديدة الصغر يمكنها أن تتضمن صدمة هائلة.