لدينا مشكلة في العالم العربي, وهي مشكلة متصلة بالتراث العربي الإسلامي; أننا لا نعترض على الاستبداد كفكرة. نعترض على الاستبداد إذا ساءت نتائجه.
علاء الأسواني
في تاريخ الحضارة الإسلامية توافرت عدة عوامل ساهمت في نهوض هذه الحضارة وبلوغها القمة ثم تلا ذلك عدة محطات تسببت أو رافقت انحدار وأفول نجم هذه الحضارة. سألقي الضوء على بعضها, خاصة تلك التي تتداعى إلى الذهن كلما طُرِقَ موضوع التفوق العلمي في أوروبا وانحداره في العالم الإسلامي, والتي تقع فيما بين القرن الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
١- أبو حامد الغزالي
القبر الذي وُجِد للغزالي في طوس - م. ص. ويكيبيديا |
أثناء زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوگان إلى إيران في ٢٠٠٩م أمر بإعادة إعمار قبر العالم الفارسي أبوحامد الغزالي المولود عام ١٠٥٨م في مدينة طوس بالقرب من مدينة مشهد الإيرانية والمتوفى في طوس أيضا. فمن هو الغزالي وما هي أهميته في التاريخ الإسلامي؟
نشأ أبوحامد الغزالي في الزمن الذي بدأت تتحول فيه السلطة في الدول الإسلامية من المذهب الشيعي إلى المذهب السني الأشعري. فقد كانت أفريقيا والحجاز تحت حكم خلافة إسلامية شيعية بقيادة الفاطميين أتباع المذهب الإسماعيلي. أما ناحية الشرق في بغداد وفارس فكانتا تحت حكم البويهيين الشيعة الإثني عشرية. وتوالت الدولتين الشيعيتيين الحمدانية والمرداسية على حكم الشام. وفي الجزيرة العربية حكم القرامطة الإسماعيليون البحرين, أما اليمامة فكانت تحت حكم الدولة الأخيضرية الزيدية. وفي اليمن دولة بنوصليح الإسماعيلية.
الدول الشيعية في القرن العاشر للميلاد - م. ص. ويكيبيديا |
فكانت المواجهة مع المذاهب الشيعية عسكرية, بالاستعانة بالسلاجقة وقائدهم آنذاك طغرل بك, وفكريا, بالاستعانة بالعلماء. فكانت النشأة الحقيقية للسلاجقة الأتراك بعد انتصار قائدهم طغرل بك على الغزنويين وتمكن من السيطرة على مرو ونيسابور, فراسل الخليفة العباسي القائم بأمر الله وفي هذه المراسلات اعترف الخليفة بالدولة السلجوقية واستنجد بطغرل بك ليحرر بغداد من البويهيين فتوجه لمحاربتهم في العراق وإيران حتى انتصر عليهم وانتهت الدولة البويهيّة قبل ولادة أبوحامد الغزالي بثلاث سنوات في ١٠٥٥م. بعد انتصار طغرل بيك, تزوج من بنت الخليفة العباسي واستقر ببغداد. ثم خلفه ألب أرسلان الذي عيّن أحد أشهر الوزراء في التاريخ الإسلامي, نظام الملك. شرع نظام الملك بتأسيس المدرسة النظامية في بغداد ضمن سلسلة من المدارس النظامية التي أسسها في الموصل والبصرة ونيسابور وأصفهان لتدريس الفقه السني الشافعي بشكل منهجي حيث لم تكن هناك مؤسسات تعليمية تدار من الدولة موازية للأزهر الذي كان مركزا للدعوة الإسماعيلية في القاهرة, فدعم نظام الملك أكثر من اثني عشر ألف معلم وفقيه في مختلف الولايات التابعة للدولة السلجوقية.
طلب نظام الملك من الغزالي أن يدرّس في المدرسة النظامية في بغداد. وأثناء عمله في المدرسة النظامية, شرع الغزالي في تأليف الكتب التي ترد على المذاهب الأخرى, وبالأخص الإسماعيلية. وكذلك انتقد الفلاسفة المسلمين (الفارابي وابن سينا), ويزعم بعض الباحثين أن هذه الانتقادات الشديدة تسببت بالقضاء على الفلسفة العقلانية في العالم العربي, مما أدى إلى تدهور علمي خيّم على العالم الإسلامي وأدى إلى انحداره بعد أن كان المسلمون في الصدارة بين الأمم.
إلا أن جورج مقدسي يقدم قراءة مغايرة للمدارس النظامية في كتابه الإسلام الحنبلي, وخصص لها فصلا كاملا أشار فيه إلى أنها لم تكن موجهة ضد الإسماعيليين ولم تحمل صفة رسمية من الدولة بل كانت نابعة من رغبة شخصية لدى نظام الملك وكان لغيره من الوزراء أيضا مدارسهم التي تدرّس أيضا المذهب الشافعي أو الحنفي, إلا أن تفاصيل ذلك خارج نطاق هذا الموضوع.
هذا باختصار رأي من يرى أن الغزالي هو السبب في انحدار العلوم الإسلامية.
هناك رأي آخر.
٢- تغيّر مسارات التجارة
من يحمّل أبوحامد الغزالي وحده جريمة قتل التفكير العقلاني في العالم الإسلامي وما تبع ذلك من انحدار في العلوم لا يأتي بتفسير مُرضٍ للمجموعة الكبيرة من العلماء الذين قدموا إنجازات علمية تجاوزت ما قدمه أسلافهم من علماء حقبة ما قبل الغزالي, بل حتى من استمروا في تقديم إنجازات علمية عظيمة بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي وبالأخص عاصمة الخلافة, بغداد. هذا ما يحاول جورج صليبا بروفيسور العلوم العربية والإسلامية بجامعة كولومبيا أن يقوله من خلال سرده التاريخي البديل لسبب انحدار العلوم الإسلامية, يقول صليبا:
"لو الغزالي, على سبيل المثال, كان مسؤولا عن موت العلوم في العالم الإسلامي فلن أعرف كيف أفسر أعمال أشخاص مثل الجزري وعبداللطيف البغدادي وابن البيطار والعرضي والطوسي وابن النفيس وقطب الدين الشيرازي وكمال الدين الفارسي ونظام الدين النيسابوري وابن الشاطر وجمشيد الكاشي وقاضي زادة الرومي وأولوغ بيك وعلاء الدين القشي والخفري .. إلخ. هذه بعض الأسماء. كلهم عاشوا وعملوا وتوفوا بعد الغزالي, فإذا كان الغزالي قد قضى على العلوم, فماذا كان هؤلاء يفعلون؟ كيف أفسر أعمالهم من الناحية العلمية؟ ولو كان الغزو المغولي, الذي فعليا تسبب في الدمار المعروف, فكيف أفسر أحد أشهر المراصد الفلكية التي شُيّدت في الحضارة الإسلامية في مدينة مراغة بعد سنة واحد من تدمير بغداد؟ في سنة ١٢٥٨ دُمرت بغداد وبين العامين ١٢٥٩-١٢٦٠ شُيّد المرصد, كيف لهذا أن يُحدث لو فعلا الحضارة قد تهدمت؟ وكذلك كيف أفسر أعمال نصير الدين الطوسي والعرضي والشيرازي والنيسابوري وجميعهم عملوا في مراغة وأنتجوا أفضل العلوم الفلكية التي عرفتها الحضارة الإسلامية؟ هذا وآخرين مثل المغربي ونجم الدين الكاتب ..إلخ, أعمال هؤلاء يجب أن لا توجد لو أن الغزو المغولي قد دمر الحضارة الإسلامية؟ من علم هؤلاء الأشخاص؟ من أوجد لهم الوظائف؟ كيف استطاعوا أن ينتجون العلم وفي أي الظروف كانوا ينتجون؟ كذلك كيف أفسّر أعمال ابن الفوطي الشهيرة, وهو الذي أخبرنا في كتابه معجم الألقاب بوجود مكتبة في مراغة تحوي على ٤٠٠٠٠٠ كتاب, واحتفظ في كتابه بما يشبه اليوميات لكل من زار تلك المكتبة, مما يعني أنه كانت هناك حياة مفعمة بالنشاط الفكري تحدث في مراغة, لو كان ذلك تدميرا, فأتمنى أن يحدث دمار مشابه له في الغد, ليمنحنا بيئة أكاديمية عظيمة كالتي يتحدث عنها ابن الفوطي".
إذا لم يكن هجوم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة هو السبب في انحدار العلوم الإسلامية ولا التدمير المغولي لعقر الخلافة الإسلامية, بغداد, هو السبب في ذلك, فما هو السبب الذي يشير إليه صليبا؟
تغيّر مسارات التجارة العالمية بعد اكتشاف القارة الأمريكية. حيث صارت القوافل التجارية الأوروبية عوضا عن أن تذهب من وإلى الهند والصين عبر البلدان العربية, باتت تتوجه مباشرة من أوروبا إلى شرق آسيا عبر الطرق البحرية متفادية بذلك المرور على العالم الإسلامي. وكما هو معلوم, القوافل التجارية تُحدث ازدهارا تجاريا وثقافيا وانعدامها من البلدان العربية منذ القرن السادس عشر الميلادي رافقه انحدار واضح للإنتاج العلمي في العالم الإسلامي وبداية صحوة علمية في أوروبا التي كانت تتمتع دون سائر الكرة الأرضية بانهمار خيرات العالم الجديد (من معادن وعبيد) مما وفر لها إمكانيات لم تتوفر لغيرها من البلدان, لذلك لم تتيسر ظروف مناسبة للثورة العلمية إلا في أوروبا فقط.
المسارات الرئيسة لطريق الحرير من القرن الثاني حتى الخامس عشر الميلادي - م. ص. ويكيبيديا |
الطُرُق التجارية هي عبارة عن مسارات واسترحات تُنقل عبرها البضائع التجارية. وتتكون من مجموعة من الطرق الرئيسة لتتيح للبضائع أن تصل لأماكن بعيدة, وتسمى بأشهر المنتجات التي تُتَداول فيها, ففي داخل أوروبا كان هناك طريق الكهرمان والذي يأتي من شمال أوروبا إلى جنوبها. وأيضا كان هناك تجارة للتوابل (قرفة, هيل, زنجبيل, فلفل, وكركم) تأتي من السواحل الهندية إلى جنوب الجزيرة العربية ثم تنتقل شمالا إلى أوروبا عبر الشام. لعدة قرون كان الهنود والأثيوبيين يسيطرون على المسارات البحرية لتجارة التوابل حيث تُجلب هذه البضائع من الهند وسريلانكا إلى البحر الأحمر, إلى أن انتشر الإسلام في القرن السابع الميلادي, فآلت السيطرة على هذه المسارات التجارية للعرب, وكذلك تحكموا في نقل البضائع عبر الشام. وتحكم الڤينيسيّون\البندقيون (الإيطاليون) بنقل البضائع لبقية أرجاء أوروبا, واستمر الوضع كذلك حتى سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين الأتراك عام ١٤٥٣م فقطعوا هذا المسار عن أوروبا. حينئذ سعت بعض الدول الأوروبية لإيجاد مسارات بديلة ليستمر التبادل التجاري مع الهند لكن مع تجنب الوقوع تحت سيطرة توسعية غير مسيحية (العثمانيين). فكان أن أُكتشفت القارة الأمريكية وتفردت أوروبا بالخيرات الكثيرة الآتية من العالم الجديد, ثم أوجدت طرقا بحرية من أوروبا إلى الهند مباشرة دون المرور على البلدان الإسلامية. وآلت السيطرة على المسارات التجارية البحرية طوال القرن السادس عشر للبرتغاليين.
مسارات التجارة البحرية في القرن السادس عشر الميلادي - م. ص. ويكيبيديا |
لم تكن دول أوروبا الغربية وحدها التي نافست الإمبراطورية العثمانية تجاريا. فروسيا كذلك كانت تتوسع باتجاه شمال آسيا مما دعى بعض الحكام المسلمين إلى طلب المساعدة من العثمانيين الذين أزمعوا عام 1568 على حفر قناة السويس لتصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر, وفي العام الذي تلاه شرعت فعليا في حفر قناة بين نهري الدون والفولغا في آسيا. الهدف من تلك القناتين هو بسط نفوذها البحري لما بعد البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي من جهة, وبين البحر الأسود وبحر قزوين من جهة أخرى. إلا أنها حين رأت ما في هذه المساعي من مشقة أعرضت عنها وانسحبت من منافسة الأوروبيين عليهما.
٣- من العربية إلى اللاتينية
ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها.
مصطفى صادق الرافعي
في هذه المسيرة يجب علينا أن نتوقف أمام لحظة مهمة, وهي تغيّر لغة العلم عند دول حوض البحر الأبيض المتوسط من العربية إلى اللاتينية. يتحدث المفكر محمد أركون عن هذه اللحظة في كتابه نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية في سياق سعيه لإظهار مدى أهمية الفيلسوف والمتصوف المسيحي ريمون لول:
"ينبغي أن يعرف القارئ عن أي فترة نتحدث هنا بالضبط: نحن الآن في نهايات القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر. لكي نفهم مغزى ذلك التاريخ أو نموضعه جيدا ينبغي العلم أن ابن الطفيل كان قد مات عام 1185, وابن رشد عام 1198, وابن ميمون عام 1204, وابن سبعين عام 1271, وابن عربي عام 1240, والقديس توما الأكويني عام 1274 … ويمكن أن نذكر أسماء مفكرين آخرين عديدين ممن ينتمون إلى تلك الفترة أو حواليها. نقصد مفكرين أثَّروا على الحياة الروحية والفكرية والعلمية والثقافية في الزمن الذي ينتمي إليه ريمون لول. وكانوا ينتمون إلى كلتا الجهتين العربية الإسلامية, والمسيحية اللاتينية, من دون أن ننسى اليهودية. وينبغي العلم أيضا بأن أهمية القرنين الثالث عشر والرابع عشر بالنسبة لتاريخ الفكر داخل فضاء الفكر الجيوبوليتيكي أو الجغرافي السياسي المتوسطي تعود إلى معطَيين أساسيين حاسمين: الأول هو أن اللغة العربية كانت لا تزال لغة علم وفلسفة ومعرفة, وكانت هي اللغة المهيمنة في حوض المتوسط, بمعنى أن تعلُّمها كان يفرض نفسه على جميع المفكرين المسلمين والمسيحيين واليهود الراغبين في الإطلاع على المؤلفات الأكثر تقدما وطليعية في مجال الفكر والعلم والمعرفة بشكل عام. أما بعد القرن الرابع عشر فقد بدأت الآية تنعكس ضد العربية ولصالح اللاتينية. وهذا هو المعطى الثاني الذي نشير إليه. ولكن طيلة هذين القرنين كانت العربية لا تزال لازمة وضرورية في الجهة المسيحية واللاتينية. وكان الرأسمال الفكري والروحي والعلمي العربي لا يزال يسهم في نهضة هذه المعارف في أوروبا. ثم تغيرت الأمور بعدئذ, ففي أثناء ذلك أو بعده بقليل كانت أوروبا قد ابتدأت مسارها للانفصال عن العرب وتحقيق استقلاليتها الذاتية, بل حتى تفوُّقها على العرب والمسلمين. والواقع أن المفكرين المسيحيين كانوا لا يزالون يقرأون المؤلفات المترجمة عن العربية إلى لغتهم اللاتينية. لكنهم بدأوا يتجرأون على نقدها من أجل تجاوزها والذهاب في سبيل المعرفة إلى ما هو أبعد منها, وهذا ما فعله القديس توما الأكويني مع ابن رشد مثلا. ماذا يعني ذلك كله؟ يعني أن انقلاب الوضع لصالح المسيحية اللاتينية بدأ يظهر منذ ذلك الوقت ثم راح يتصاعد لاحقا أكثر فأكثر حتى وصلنا إلى هيمنة مطلقة للغرب من كل النواحي العلمية والتكنولوجية والفلسفية والسياسية. والواقع أن الديناميكية التاريخية للعالم العربي الإسلامي ما انفكَّت تضعف وتخمد في الوقت الذي راحت فيه الديناميكية التاريخية للعام المسيحي اللاتيني تتزايد وتترسخ أكثر فأكثر يوما بعد يوم. لكي أتتبَّع حلقات هذا الانعكاس في التطور التاريخي بين كلا الجانبين أو كلتا الضفتين كنت قد تحدثت عن ضرورة تأسيس علم جديد بعنوان: سوسيولوجيا الإخفاق أو الفشل أو التراجع والتقهقر. بمعنى: لماذا فشلت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي وتراجعت؟ هذا في حين أنها انطلقت بكل قوة في العالم المسيحي الأوروبي في اللحظة التاريخية ذاتها؟ لماذا ينجح الفكر العقلاني في بيئة ما ويذوي ويضمر ويموت في بيئة أخرى؟ ما هي العوامل السوسيولوجية التي تؤدي إلى ذلك؟ هذا ما أقصده بسوسيولوجيا الفشل أو علم اجتماع الفشل. بمعنى آخر هناك عوامل سلبية ذات طبيعة سوسيولوجية واقتصادية وسياسية أدَّت إلى ذلك. الفكر ليس مفصولا عن البيئة والظروف على عكس ما نتوهم, نحن المثاليين الحالمين الشاطحين في متاهات الميتافيزيقيا الخيالية. الفكر ليس فوق الواقع ولا فوق النجوم. الفكر أيضا مشروط بالماديات والحيثيات والمعطيات الواقعية. وبالمقابل ينبغي أن نؤسس علما ملازما للأول بعنوان علم اجتماع النجاح والتقدم لكي نفهم سرَّ الانطلاقة الصاروخية للعالم الأوروبي اللاتيني المسيحي بدءً من تلك الفترة. وينبغي العلم أن هذا الانعكاس لكلا الزمنيين التاريخيين العربي الإسلامي واللاتيني المسيحي ما انفك يتواصل ويفرض نفسه على كلا سفحي تاريخ الفكر الفكر والثقافات والحضارات حتى يومنا هذا. فكلما تقدمت الحضارة على الضفة الشمالية الغربية من المتوسط, كلما تراجعت على الضفة الجنوبية الشرقية حيث عالم العروبة والإسلام. واليوم يمكننا أن نتحدث عن هوة سحيقة تَفصل بين كلتا الضفتين, وهي هوة حُفرت وتعمقت على مدار سبعمئة سنة متواصلة منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن العشرين. ومن المسؤول عن هذه الهوة أو هذا التفاوت التاريخي بين العرب والغرب؟ إنه تفاقم عوامل التراجع والتقهقر في جهتنا, وعلى العكس, تصاعد عوامل التقدم والنهوض في جهتهم حيث حصلت أكبر ثورة فكرية وعلمية في تاريخ البشرية. لا يمكن أن نفكر في الحوار بين كلتا الضفتين إذا لم نأخذ هذا المعطى الأساسي الحاسم بعين الاعتبار. وبالتالي, من أجل أن نقيم المصالحة وندشِّن العلاقة الفكرية والروحية والعلمية, وبالتالي السياسية بيننا وبينهم. ينبغي أن نقوم بترميم هذا الفضاء التاريخي المتوسطي, ولكن هل يمكن سد الهوة أو تقليص الشقة بيننا وبينهم في المدى المنظور؟ بالطبع لا. ولكن يمكن على الأقل أن نفهم سبب هذه الهوة وكيفية معالجتها ومدِّ جسور الحوار وربما إزالة أسباب سوء التفاهم بين ضفَّتين متصارعتين. يمكن تقليص الهوَّة ولو قليلا. ومن دون ذلك لا يمكن إقامة حوار بين الشمال أو الجنوب أو بين الضفَّتين المتصارعتين على مدار التاريخ."
٤- تحريم الطباعة
طوّر يوهان غوتنبرغ وسيلة سهلة للطباعة على الورق عام 1447 وشرع الأوروبيون في طباعة ونشر الإنجيل والكثير من الكتب الدينية والعلمية وجعلها في متناول الناس. أما في العالم الإسلامي فقد انتظر المسلمون ثلاثة قرون حتى أجاز الفقهاء الطباعة باللغة العربية للمسلمين. وكانت مطبعة بولاق التي أُنشئت في القرن التاسع عشر في مصر هي أول مطبعة رسمية عربية.
في هذا المقطع يشرح الدكتور طارق السويدان أسباب وحجج الفقهاء الذين أقنعوا السلطان العثماني بمنع استخدام آلات الطباعة:
٥- معركة ليبانتو
حُسمت مسألة الغلبة لصالح الغرب منذ معركة ليبانت (Lepante) التي جرت عام ١٥٧١ بين الامبراطورية العثمانية والجيوش الغربية المسيحية. بعدئذ راح النهوض الفكري والعلمي والتكنولوجي للغرب يتزايد أكثر فأكثر, في حين أن العالم الإسلامي راح يغطس أكثر فأكثر في وهدة التخلف والعجز.
هاشم صالح, الاستشراق بين دعاته ومعارضيه
محطة أخرى مهمة في مسيرة التفوق الأوروبي والانحدار الإسلامي هي معركة ليبانتو التي وقعت بالقرب من مدينة ليبانتو اليونانية عام ١٥٧١ بين الدولة العثمانية ومجموعة من الدول الأوروبية, وفيها استخدم الحلف المقدس الأوروبي مجموعة متطورة من السفن لم يرى العثمانيون مثيلا لها من قبل, وأدركوا بشكل جلي مدى تفوق الأوروبيين عليهم, ومنذ ذلك الحين استمر الأوروبيون في التطور بوتيرة لم يستطع العثمانيون مجاراتها, وأما ما ظهر جليا للأوروبيين هو أن الأتراك, خلاف ما اعتادوا عليه, يمكن هزيمتهم.
سبب المعركة هو سعي العثمانيين لفتح جزيرة قبرص, مما دفع بالبابا بيوس الخامس إلى الطلب من ملك إسبانيا عقد تحالف أوروبي لمواجهة الأتراك. وحين علم العثمانيون عن هذا التحالف توجهوا إليه في محاولة للقضاء عليه. إلا أنهم تفاجئوا باستخدام الأوروبيين لنوع جديد كليا من السفن طوره البندقيون ويُعرف باسم الغلياس galleass التي أنهكت الأتراك وساهمت في حسم المعركة لصالح الحلف المقدس. تميزت سفن الغلياس عن السفن العادية بالتسليح الجانبي, بحيث يمكنها أن تطلق النار من كل الاتجاهات, وهي كذلك عالية مما يحصنها من أي محاولة لاقتحامها. خلال المعركة, دمرت أربعة من سفن الغلياس ١٠٨ سفينة تركية.
سفينة الغلياس - م. ص. ويكيبيديا |
ليبانتو كانت وثبة كبيرة للأوروبيين في صراعهم الطويل مع العالم الإسلامي, أما بالنسبة للأتراك فهي لم تكن سوى عثرة بسيطة في سلسلة انتصاراتهم المتتابعة على الأراضي الأوروبية. تلا ذلك محاولات عثمانية عديدة للتفوق على أوروبا ومحاولة فهم أسباب تأخرهم.
٦- الابتعاد عن الدين
إن الأمة إنما كان الخلل فيها من تقصيرها في دينها لا في دنياها. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ما الفقر أخشى عليكم, وإنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها.
بعدما لاحظ المسلمون تفوق الأوروبيين عليهم وتأخرهم, حاولوا معرفة الأسباب, وتسائلوا "من الذي فعل بنا هذا؟ وما الخطأ الذي ارتكبناه؟". كان الوزير العثماني لطفي باشا من أوائل من كتب في هذا الموضوع عام 1541 محاولا معرفة الأسباب التي أدت لذلك وإيجاد الحلول المناسبة. وتبعه آخرون تناولوا نفس الموضوع, انتهى أغلبهم إلى أن الابتعاد عن تطبيق الدين كما مارسه السلف هو السبب في تراجعهم وتقدم غيرهم عليهم, والحل هو بالعودة إلى الدين.
وفي قلب الجزيرة العربية, رغم بعدها عن التطورات التي تحدث في العالم, إلا أن فريضة الحج السنوية أتاحت لأهل الجزيرة من الإحتكاك بالمسلمين القادمين من شتى أقطار العالم, ومن خلالهم أدركوا حجم تأخرهم عن ركب الدول الأخرى, فتبنوا نفس الفكرة التي ظهرت في الدولة العثمانية, وهي ضرورة العودة إلى تطبيق الإسلام النقي حتى يحقق الله لهم العزة والرفعة بين الأمم كما كان ذلك في بداية الإسلام. ومنحت هذه الفكرة دافعا قويا لظهور دعوة الشيخ محمد عبدالوهاب في نجد بهدف دعوة المسلمين إلى ما كان عليه السلف من توحيد وسنة.
للمزيد